فصل: سورة الإخلاص:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.سورة النصر:

بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 3):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [1- 3].
{إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ} أي: لدينه الحق على الباطل {وَالْفَتْحُ} أي: فتح مكة الذي فتح الله بينه وبين قومه صلوات الله عليه، فجعل له الغلبة عليهم وضعف أمرهم في التمسك بعقائدهم الباطلة.
{وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً} أي: ورأيت الناس من صنوف العرب وقبائلها عند ذلك يدخلون في دين الله، وهو دينك الذي جئتهم به لزوال ذلك الغطاء الذي كان يحول بينهم وبينه، وهو غطاء قوة الباطل فيقبلون عليه أفواجاً طوائف وجماعات لا آحاداً، كما كان في بدء الأمر أيام الشدة؛ إذ حصل ذلك كله وهو لا ريب حاصل.
{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} أي: فنزِّه ربك عن أن يهمل الحق ويدعه للباطل يأكله، وعن أن يخلف وعده في تأييده، وليكن هذا التنزيه بواسطة حمده والثناء عليه بأنه القادر الذي لا يغلبه غالب، والحكيم الذي إذا أمهل الكافرين ليمتحن قلوب المؤمنين، فلن يضيع أجر العاملين ولا يصلح عمل المفسدين. والبصير بما في قلوب المخلصين والمنافقين، فلا يذهب عليه رياء المفسدين، والبصير بما في قلوب المخلصين والمنافقين، فلا يذهب عليه رياء المرائين {وَاسْتَغْفِرْهُ} أي: اسأله أن يغفر لك ولأصحابك ما كان من القلق والضجر والحزن، لتأخر زمن النصر والفتح. والاستغفار إنما يكون بالتوبة الخالصة. والتوبة من القلق إنما تكون بتكميل الثقة بوعد الله، وتغليب هذه الثقة على خواطر النفس التي تحدثها الشدائد، وهو وإن كان مما يشق على نفوس البشر، ولكن الله علم أن نفس نبيه صلى الله عليه وسلم قد تبلغ ذلك الكمال، فلذلك أمره به، وكذلك تقاربه قلوب الكمّل من أصحابه وأتباعه عليه السلام. والله يتقبل منهم.
{إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} أي: إنه سبحانه لا يزال يوصف بأنه كثير القبول للتوبة، لأنه ربٌّ يربي النفوس بالمحن، فإذا وجدتْ الضعف أنهضها إلى طلب القوة، وشدد همها بحسن الوعد، ولا يزال بها حتى تبلغ الكمال، وهي في كل منزلة تتوب عن التي قبلها، وهو سبحانه يقبل توبتها فهو التواب الرحيم. وكأن الله يقول: إذا حصل الفتح وتحقق النصر وأقبل الناس على الدين الحق، فقد ارتفع الخوف وزال موجب الحزن، فلم يبق إلا تسبيح الله وشكره والنزوع إليه عما كان من خواطر النفس، فلن تعود الشدة تأخذ نفوس المخلصين ما داموا على تلك الكثرة في ذلك الإخلاص. ومن هذا أخذ النبي صلى الله عليه وسلم أن الأمر قد تم ولم يبق له إلا أن يسير إلى ربه، فقال فيما روي عنه: «إنه قد نعيت إليه نفسه». هذا ملخص ما أورده الإمام في تفسيره.
تنبيهات:
الأول: قال ابن كثير: المراد بالفتح هاهنا فتح مكة قولاً واحداً، فإن أحياء العرب كانت تتلوّم بإسلامها فتح مكة، يقولون: إن ظهر على قومه فهو نبيّ. فلما فتح الله عليه مكة، دخلوا في دين الله أفواجاً، فلم تمض سنتان حتى استوسقت جزيرة العرب إيماناً، ولم يبق في سائر قبائل العرب إلا مظهِر للإسلام ولله الحمد والمنة. وقد روى البخاري في صحيحه عن عمرو بن سلمة: كنا بماءٍ ممرَّ الناس، وكان يمرُ بنا الركبان فنسألهم: ما للناس؟ ما للناس؟ ما هذا الرجل؟ فيقولون: يزعم أن الله تعالى أرسله أوحى إليه، أو أوحى الله بكذا، فكنت أحفظ ذلك الكلام وكأنما يُغزى في صدري. وكانت العرب تَلَوَّمُ بإسلامهم الفتح، فيقولون: اتركوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق. فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم وبدر أبي قومي بإسلامهم.... الحديث.
الثاني: قال الرازي: إذا حملنا الفتح على فتح مكة، فللناس في وقت النزول هذه السورة قولان:
أحدهما: أن فتح مكة كان سنة ثمان. ونزلت هذه السورة سنة عشر، وروي أنه «عاش بعد نزول هذه السورة سبعين يوماً»، ولذلك سميت سورة التوديع.
ثانيهما: أن هذه السورة نزلت قبل فتح مكة، وهو وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينصره على أهل مكة وأن يفتحها عليه. ونظيره {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: 85]، وقوله: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} يقتضي الاستقبال؛ إذ لا يقال فيما وقع: {إِذَا جَاء} و: إذا وقع، وإذا صح القول صارت هذه الآية من جملة المعجزات، من حيث إنه خبر وجد مخبره بعد حين مطابقاً له، والإخبار عن الغيب معجزة. انتهى.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: ولأبي يعلى، من حديث ابن عمر: نزلت هذه السورة في أوسط أيام التشريق، في حجة الوداع «فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه الوداع».
ثم قال: وسئلت عن قول الكشاف: أن سورة النصر نزلت في حجة الوداع أيام التشريق، فكيف صدرت بإذا الدالة على الاستقبال؟ فأجبت بضعف ما نقله. وعلى تقدير صحته، فالشرط لم يتكمل بالفتح؛ لأن مجيء الناس أفواجاً لم يكن كمل، فبقية الشرط مستقبل.
وقد أورد الطيبي السؤال، وأجاب بجوابين:
أحدهما: أن إذا قد ترد بمعنى إذ كما في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً} [الجمعة: 11] الآية.
ثانيهما: أن كلام الله قديم. وفي كل من الجوابين نظر لا يخفى. انتهى كلامه.
الثالث: قال الشهاب: المراد بالناس العرب. فأل عهدية. أو المراد الاستغراق العرفيّ والمراد عبدة الأصنام منهم؛ لأن نصارى تغلب لم يسلموا في حياته صلى الله عليه وسلم وأعطوا الجزية.
الرابع: روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما صلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن نزلت عليه: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} إلا يقول فيها: «سبحانك ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي».
وفيه عنها أيضاً: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: «سبحانك اللهم ربَّنا وبحمدك، اللهم اغفر لي»، يتأول القرآن.
قال الحافظ ابن حجر: معنى يتأول القرآن، يجعل ما أمر به من التسبيح والتحميد والاستغفار، في أشرف الأوقات والأحوال.
وقال ابن القيم في الهدى كأنه أخذه من قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْهُ} لأنه كان يجعل الاستغفار في خواتم الأمور، فيقول إذا سلم من الصلاة: «أستغفر الله» ثلاثاً. وإذا خرج من الخلاء قال: «غفرانك». وورد الأمر بالاستغفار عند انقضاء المناسك: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ} [البقرة: 199] الآية.

.سورة المسد:

بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 5):

القول في تأويل قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} [1- 5].
{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} أي: خسرت يداه، وخسر هو. واليدان كناية عن الذات والنفس، لما بينهما من اللزوم في الجملة، أو مجاز من باب إطلاق الجزء على الكل. وجملة {وَتُبْ} مؤكدة لما قبلها، أو المراد بالأولى خسرانه في نفسه وذاته؛ لأن سعي المرء لإصلاح نفسه وعمله. فأخبر بأن محروم منهما، كما تشير له الآيتان بعد: أعني هلاك عمله وهلاك نفسه.
وقال ابن جرير: كان بعض أهل العربية يقول قوله: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} دعاء عليه من الله. وأما قوله: {وَتُبْ} فإنه خبر، أي: عما سيحقق له في الدنيا والآخرة. وعبر عنه بالماضي لتحققه.
وأبو لهب أحد عمومة النبي صلى الله عليه وسلم، واسمه عبد العزى، وقد اشتهر بكنيته وعرف بها لولد له يقال: له لهب، أو لتلهب وجنتيه وإشراقهما، مع الإشارة إلى أنه من أهل النار، وأن مآله إلى نار ذات لهب، فوافقت حاله كنيته، فحسن ذكره بها.
قال الرواة: كان أبو لهب من أشد الناس عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم، وأذية له وبغضة له وازدراء به وتنقصاً له ولدعوته، ومات على كفره بعد وقعة بدر ولم يحضرها، بل أرسل عنه بديلاً، فلما بلغه ما جرى لقريش مات غماً، وقد روى الشيخان عن ابن عباس قال: لما نزلت {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]، صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا ونادى: «يا بني فهر! يا بني عديّ!»- لبطون من قريش- حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أرسل رسولاً؛ لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش فقال: «أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقيّ»؟ قالوا: نعم. ما جربنا عليك إلا صدقاً. قال: «فإني لكم نذير بين يدي عذاب شديد». فقال أبو لهب: ُتبّاً لك سائرَ اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت السورة.
وروى الإمام أحمد عن ربيعة بن عباد الديلي قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية في سوق ذي المجاز وهو يقول: «يا أيها الناس! قولوا: لا إله إلا الله، تفلحوا». والناس مجتمعون عليه. ووراءه رجل وضيء الوجه أحول، ذو غديرتين، يقول: إنه صابئ كاذب. يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه فقالوا: هذا عمه أبو لهب. وفي رواية له: يتبعه من خلفه يقول: يا بني فلان! هذا يريد منكم أن تسلخوا اللات والعزى وحلفاءكم من الجن، إلى ما جاء به من البدعة والضلالة. فلا تسمعوا له ولا تتبعوه.
{مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} أي: أي: شيء أغنى عنه ماله وما كسبه من سخط الله عليه وخسرانه. فكسبه هو عمله الذي يظن أنه منه على شيء. وقيل: ولده؛ لقرن الأولاد بالأموال في كثير من الآيات، وكانت العرب تعد أولادها للنائبات كالأموال، فنفى إغناءهما عنه حين حلَّ به التباب.
قال الشهاب: والذي صححه أهل الأثر أن أولاده، لعنه الله، ثلاثة: متعب وعتبة وهما أسلما، وعتيبة- مصغراً- وهذا هو الذي دعا النبي صلى الله عليه وسلم لما جاهر بإيذائه وعداوته، ورد ابنته وطلقها، وقال صلوات الله عليه وسلامه: «اللهم سلِّط عليه كلباً من كلابك». فأكله السبع في خرجة خرجها إلى الشام. وفيه يقول حسان رضي الله عنه:
من يرجعُ العامَ إلى أهلِهِ ** فما أُكِيلُ السَّبْعِ بالراجِعِ

ثم قال: ولهب هو أحد هؤلاء فيما قيل، قال الثعالبي: ومنه يعلم أن الأسد يطلق عليه كلب. ولما أضيف إلى الله، كان أعظم أفراده.
{سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} أي: توقّد واشتعال، وهي نار الآخرة، جزاء ما كان يأتيه من مقاومة الحق ومجاهدته.
{وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} أي: وسيصلاها معه امرأته أيضأ: فـ: {امْرَأَتَهُ} مرفوع عطفاً على الضمير في {سَيَصْلَى} أو على الابتداء، و{فِي جِيدِهَا} الخبر. وقرئ: {حَمَّالَةَ} بالنصب على الشتم والذم، وبالرفع نعتاً أو بدلاً أو عطف بيان. إنما قيل لها ذلك لأنها كانت تحطب الكلام وتمشي بالنميمة، كما قاله مجاهد وعكرمة وقتادة.
قال الزمخشري: ويقال للمشّاء بالنمائم المفسد بين الناس، يحمل الحطب بينهم، أي: يوقد بينهم ويورث الشر، قال:
البيض لم تُصْطَدْ على ظهر لأْمة ** ولَمْ تَمْشِ بين الحيّ بالحطَبِ الرَّطْبِ

يمدحها بأنها من البيض الوجوه وأنها بريئة من أن تصطاد على سوء ولؤم فيها، ومن أن تمشي بالسعاية والنميمة بين الناس. وإنما جعل رطباً ليدل على التدخين الذي هو زيادة الشر. ويقال: فلان يحطب على فلان، إذا أغرى به.
قال الشهاب: وهي استعارة مشهورة لطيفة، كاستعارة حطب جهنم للأوزار.
قال ابن كثير: وكانت زوجته من سادات نساء قريش، وهي أم جميل، واسمها أروى بنت حرب بن أمية، وهي أخت أبي سفيان وعمة معاوية، وكانت عوناً لزوجها على كفره وجحوده وعناده.
{فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} قال الإمام رحمه الله: أي: في عنقها حبل من الليف، أي: أنها في تكليف نفسها المشقة الفادحة، للإفساد بين الناس وتأريث نيران العداوة بينهم، بمنزلة حامل الحطب الذي في عنقه حبل خشن، يشدّ به ما حمله إلى عنقه، حتى يستقل به. وهذه أشنع صورة تظهر بها امرأة تحمل الحطب، وفي عنقها حبل من الليف، تشد به الحطب إلى كاهلها، حتى تكاد تختنق به.
وقال أيضاً: قد أنزل الله في أبي لهب وفي زوجته هذه السورة، ليكون مثلاً يعتبر به من يعادي ما أنزل الله على نبيِّه، مطاوعة لهواه وإيثاراً لما ألفه من العقائد والعوائد والأعمال، واغتراراً بما عنده من الأموال، وبما له من الصولة أو من المنزلة في قلوب الرجال، وأنه لا تغني عنه أمواله ولا أعماله شيئاً، وسيصلى ما يصلى. نسأل الله العافية.

.سورة الإخلاص:

بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 4):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} [1- 4].
{قُلْ هُوَ} أي: الخبر الحق المؤيد بالبرهان الذي لا يرتاب فيه، وهو ما يعبِّر عنه النحويون بالقصة أو الحديث أو الشأن. قال أبو السعود: ومدار وضعه موضعه، مع عدم سبق ذكره الإيذانُ بأنه من الشهرة والنباهة بحيث يستحضره كل أحد، وإليه يشير كل مشير، وإليه يعود كل ضمير {اللّهُ أحْدَ} أي: واحد في الألوهية والربوبية.
قال الزمخشري: {أَحَدٌ} بمعنى واحد. وقال ابن الأثير: الأحد في أسمائه تعالى الفرد الذي لم يزل وحده ولم يكن معه آخر. والهمزة فيه بدل من الواو. وأصله: وحد؛ لأنه من الوحدة.
وفي المصباح: يكون أحد مرادفاً لواحد في موضعين سماعاً: أحدهما: وصف اسم البارئ تعالى، فقال: هو الواحد وهو الأحد؛ لاختصاصه بالأحدية، فلا يشركه فيها غيره. ولهذا لا يُنعت به غير الله تعالى، فلا يقال: رجل أحد، ولا: درهم أحد، ونحو ذلك.
والموضع الثاني: أسماء العدد للغلبة وكثرة الاستعمال، فيقال: أحد وعشرون، وواحد وعشرون. وفي غير هذين يقع الفرق بينهما في الاستعمال، بأن الأحد لنفي ما يذكر معه، فلا يستعمل إلا في الجحد، لما فيه العموم، نحو: ما قام أحد. أو مضافاً نحو: ما قام أحد الثلاثة. والواحد اسم لمفتتح العدد، ويستعمل في الإثبات، مضافاً وغير مضاف. فيقال: جاءني واحد من القوم. انتهى.
وقال الأزهري: الواحد من صفات الله تعالى، معناه أنه لا ثاني له، ويجوز أن ينعت الشيء بأنه واحد. فأما {أَحَدٌ} فلا ينعت به غير الله تعالى؛ لخلوص هذا الاسم الشريف له جل ثناؤه.
قال الإمام: ونكّر الخبر لأن المقصود أن يخبر عن الله بأنه واحد، لا بأنه لا واحد سواه. فإن الوحدة تكون لكل واحد، تقول: لا أحد في الدار، بمعنى لا واحد من الناس فيها. والذي كان يزعمه المخاطبون هو التعدد في ذاته، فأراد نفي ذلك بأنه أحد. وهو تقرير لخلاف ما يعتقد به أهل الأصلين من المجوس، وما يعتقده القائلون بالثلاثة، منهم ومن غيرهم. وسيأتي لابن تيمية كلام آخر في سر إيثاره بالتنكير.
{اللَّهُ الصَّمَدُ} أي: الذي يُصمَد إليه في الحوائج، ويُقصد إليه في الرغائب. إذ ينتهي إليه منتهى السؤدد، قاله الغزاليّ في المقصد الأسنى. وهكذا قال ابن جرير: الصمد عند العرب هو السيد الذي يصمد إليه، الذي لا أحد فوقه، وكذلك تسمى أشرافها. ومنه قول الشاعر:
ألا بَكََرَ النَّاعي بخَيْرَيْ أَسَدْ ** بعَمْرِو بن مسعودٍ وبالسَّيِّدِ الصَّمَدْ

قال الشهاب: فهو فَعَل بمعنى مفعول، وصمد بمعنى قصد. فيتعدى بنفسه وباللام وإلى.
وقال ابن تيمية رحمه الله: وفي الصمد للسلف أقوال متعددة، قد يظن أنها مختلفة وليست كذلك، بل كلها صواب والمشهور منها قولان:
أحدهما: أن الصمد هو الذي لا جوف له.
والثاني: أنه السيد الذي يُصمد إليه في الحوائج.
والأول هو قول أكثر السلف من الصحابة والتابعين وطائفة من أهل اللغة.
والثاني قول طائفة من السلف والخلف وجمهور اللغويين.
ثم توسع رحمه الله في مأخذ ذلك واشتقاقه والمأثور فيه، إلى أن قال:
وإنما أدخل اللام في {الصَّمَدُ} ولم يدخلها في {أَحَدٌ} لأنه ليس في الموجودات ما يسمى أحداً في الإثبات مفرداً غير مضاف، ولم يوصف به شيء من الأعيان إلا الله وحده. وإنما يستعمل في غير الله في النفي وفي الإضافة وفي العدد المطلق، وأما اسم الصمد فقد استعمله أهل اللغة في حق المخلوقين، كما تقدم، فلم يقل: صمد، بل قال: {اللَّهُ الصَّمَدُ} فبين أنه المستحق لأن يكون هو الصمد دون ما سواه، فإنه المستوجب لغايته على الكمال، والمخلوق وإن كان صمداً من بعض الوجوه، فإن حقيقة الصمدية منتفية عنه، فإنه يقبل التفرق والتجزئة، وهو أيضاً محتاج إلى غيره، فإن كل ما سوى الله محتاج إليه من كل وجه، فليس أحد يصمد إليه كلُّ شيء ولا يصمد هو على شيء إلا الله، وليس في المخلوقات إلا ما يقبل أن يتجزأ ويتفرق وينقسم وينفصل بعضه من بعض، والله سبحانه هو الصمد الذي لا يجوز عليه شيء من ذلك، بل حقيقة الصمدية وكمالها له وحده واجبة لازمة، لا يمكن عدم صمديته بوجه من الوجوه، كما لا يمكن تثنية أحديته بوجه من الوجوه.
وقال أبو السعود: وتكرير الاسم الجليل للإشعار بأن من لم يتصف بذلك فهو بمعزل من استحقاق الألوهية. وتعرية الجملة على العاطف لأنها كالنتيجة للأولى، بيَّن أولاً ألوهيته عزَّ وجلّ المستتبعة لكافة نعوت الكمال، ثم أحديته الموجبة تنزهه عن شائبة التعدد والتركيب بوجه من الوجوه، وتوهم المشاركة في الحقيقة وخواصها، ثم صمديته المقتضية لاستغنائه الذاتيّ عما سواه، وافتقار جميع المخلوقات إليه في وجودها وبقائها وسائر أحوالها، تحقيقاً للحق وإرشاداً لهم إلى سننه الواضح، ثم صرح ببعض ما يندرج فيما تقدم، بقوله سبحانه: {لَمْ يَلِدْ} نصيباً على إبطال زعم المفترين في حق الملائكة والمسيح، ولذلك ورد النفي على صيغة الماضي، أي: لم يصدر عنه ولد؛ لأنه لا يجانسه شيء ليمكن أن يكون له من جنسه صاحبة فيتوالدا، كما نطق به قوله تعالى: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ} [الأنعام: 101]، ولا يفتقر إلى ما يعينه أو يخلفه؛ لاستحالة الحاجة والفناء عليه سبحانه. انتهى.
وقال ابن تيمية: وقد شمل ما أخبر به سبحانه من تنزيهه وتقديسه عما أضافوه إليه من الولادة كلَّ أفرادها، سواء سموها حسية أو عقلية، كما تزعمه الفلاسفة الصابئون من تولد العقول العشرة والنفوس الفلكية التسعة التي هم مضطربون فيها، هل هي جواهر أو أعراض؟ وقد يجعلون العقول بمنزلة الذكور والنفوسَ بمنزلة الإناث، ويجعلون ذلك آباءهم وأمهاتهم وآلهتهم وأربابهم القريبة، وذلك شبيه بقول مشركي العرب وغيرهم، الذين جعلوا له بنين وبنات، قال تعالى: {وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاءٍَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنعام: 100]، وقال تعالى: {أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الصافات: 151- 152]، وكانوا يقولون: الملائكة بنات الله. كما يزعم هؤلاء أن النفوس هي الملائكة، وهي متولدة عن الله، فقال تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ} [النحل: 57]، والآيات في هذا كثيرة.
وقوله:
{وَلَمْ يُولَدْ} نفي لإحاطة النسب من جميع الجهات، فهو الأول الذي لم يتقدمه والد كان منه، وهو الآخر الذي لم يتأخر عنه ولد يكون عنه. قال الإمام: قوله {وَلَمْ يُولَدْ} يصرح ببطلان ما يزعمه بعض أرباب الأديان من أن ابناً لله يكون إلهاً، ويُعبد عبادة الإله، ويُقصد فيه الإله، بل لا يَستحي الغالون منهم أن يعبِّروا عن والدته بأم الإله القادرة، فإن المولود حادث ولا يكون إلا بمزاج، وهو لا يسلم من عاقبة الفناء، ودعوى أنه أزلي مع أبيه، مما لا يمكن تعقلهُ، فهو سبحانه منزَّه عن ذلك.
{وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} أي: ولم يكن أحد يكافئه أي: يماثله من صاحبة أو غيرها. وقال الإمام: الكفؤ معناه المكافئ والمماثل في العمل والقدرة. وهو نفي لما يعتقده بعض الوثنيين في الشيطان مثلاً. فقد نفى بهذه السورة جميع أنواع الشرك، وقرَّر جميع أصول التوحيد والتنزيه. وقال ابن جرير: الكفؤ والكفئ والكفاء في كلام العرب واحد، وهو المثل والشبه.
وقرئ: {كُفُواً} بضم الكاف والفاء وقلب الهمزة واواً. وقرئ بتسكين الفاء وهمزها، وهما قراءتان معروفتان، ولغتان مشهورتان. و{لَّهُ} صلة لـ: {كُفُواً} قدمت عليه، مع أن حقها التأخر عنه؛ للاهتمام بها، لأن المقصود نفي المكافأة عن ذاته تعالى. وأما تأخير اسم كان فلمراعاة الفواصل.
فوائد من هذه السورة:
الأولى: قال الشهاب: فإن قلت المأمور: {قُلُ} من شأنه إذا امتثل أن يتلفظ بالمقول وحده، فلِم كانت {قُلْ} من المتلوّ فيه وفي نظائره في القراءة؟
قلت: المأمور به سواء كان معيناً أم لا، مأمور بالإقرار بالمقول، فأثبت القول ليدل على إيجاب مقوله ولزوم الإقرار به على مرّ الدهور.
الثانية: قال الإمام ابن تيمية: احتج بقوله تعالى: {اللَّهُ الصَّمَدُ} من أهل الكلام المحدث من يقول: الرب- تعالى- جسم. كبعض الذين وافقوا هشام بن الحكم ومحمد بن كرام وغيرهما، قالوا: هو صمد، والصمد الذي لا جوف له. وهذا إنما يكون في الأجسام المصمتة، فإنها لا جوف لها، كما في الجبال والصخور وما يصنع من عواميد الحجارة، ولهذا قيل في تفسيره: إنه الذي لا يخرج منه شيء ولا يدخل فيه شيء ولا يأكل ولا يشرب. ونفي هذا لا يعقل إلا عما هو جسم.
وقالوا: أصل الصمد: الاجتماع، ومنه تصميد المال. وهذا إنما يعقل في الجسم المجتمع. وأما النفاة فقالوا: الصمد الذي لا يجوز عليه التفرق والانقسام، وكل جسم في العالم يجوز عليه التفرق والانقسام.
وقالوا أيضاً: الأحد الذي لا يقبل التجزؤ والانقسام. وكل جسم في العالم يجوز عليه التفرق والتجزؤ والانقسام. وقالوا: إذا قلتم: هو جسم كان مركباً مؤلفاً من الجواهر الفردة أو من المادة والصورة. وما كان مركباً مؤلفاً من غيره كان مفتقراً إليه، وهو سبحانه صمد، والصمد الغني عمن سواه، فالمركب لا يكون صمداً. انتهى.
وقال الرازي: قد استدل القوم من جهَّال المشبهة بهذه الآية في أنه تعالى جسم، وهذا باطل لأنا بينا أن كونه أحداً ينافي كونه جسماً. فمقدمة هذه الآية دالة على أنه لا يمكن أن يكون المراد من الصمد هذا المعنى، ولأن الصمد بهذا التفسير صفة الأجسام المتضاغظة، وتعالى الله عن ذلك. فإذن يجب أن يحمل ذلك على مجازه؛ وذلك لأن الجسم الذي يكون كذلك، يكون عديم الانفعال والتأثر عن الغير، وذلك إشارة إلى كونه سبحانه واجباً لذاته ممتنع التغير في وجوده وبقائه وجميع صفاته. انتهى.
وأقول: التصحيح في تأويل الصمد ما ذكرناه أولاً، وهو ما حكاه ابن جرير وغيره عن العرب في معناه. وإذا تحقق هذا، فلا يعول على هذا الثاني ولا لوازمه.
الثالثة: قال ابن تيمية: كما يجب تنزيه الرب عن كل نقص وعيب، يجب أن تنزيهه عن أن يماثله شيء من المخلوقات في شيء من صفات الكمال الثابتة له، وهذان النوعان يجمعان التنزيه الواجب لله، وهذه السورة دلت على النوعين، فقوله:
{أَحَدٌ} من قوله:
{وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} ينفي المماثلة والمشاركة. وقوله: صمد يتضمن جميع صفات الكمال، فالنقائص جنسُها منفيٌّ عن الله تعالى، وكل ما اختص به المخلوق فهو من النقائص التي يجب تنزيه الرب عنها. بخلاف ما يوصف به الرب، ويوصف العبد بما يليق به مثل العلم والقدرة والرحمة ونحو ذلك، فإن هذه ليست نقائص بل ما ثبت لله من هذه المعاني، فإنه يثبت لله على وجه لا يقاربه فيه أحد من المخلوقات، فضلاً عن أن يماثله فيه، بل ما خلقه الله في الجنة من المآكل والمشارب والملابس لا يماثل ما خلقه في الدنيا وإن اتفقا في الاسم، فكلاهما مخلوق. فالخالق تعالى أبعد في مماثلة المخلوقات من المخلوقات إلى المخلوق. وقد سمَّى الله نفسَه عليماً حليماً رؤوفاً رحيماً سميعاً بصيراً عزيزاً ملِكاً جباراً متكبراً، وسمَّى أيضا بعض مخلوقاته بهذه الأسماء، مع العلم أنه ليس المسمى بهذه الأسماء من المخلوقين مماثلاً للخالق جلَّ جلاله في شيء من الأشياء.
الرابعة: قدمنا ما ورد في الحديث من أن «سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن».
وقد ذكروا في ذلك وجوها، منها ما قاله أبو العباس بن سريج: أن القرآن أنزل على ثلاثة أقسام: ثلث منها للأحكام، وثلث منها وعد ووعيد، وثلث منها الأسماء والصفات. وهذه السورة جمعت الأسماء والصفات. وقال الغزالي في جواهر القرآن: مهمات القرآن هي معرفة الله ومعرفة الآخرة ومعرفة الصراط المستقيم، فهذه المعارف الثلاثة هي المهمة، والباقي توابع. وسورة الإخلاص تشتمل على واحدة من الثلاث، وهي معرفة الله، وتقديسه وتوحيده عن مشارك في الجنس والنوع. وهو المراد بنفي الأصل والفرع والكفؤ.
قال: والوصف بالصمد يشعِر بأنه السيد الذي لا يقصد في الوجود للحوائج سواه. نعم، ليس فيها حديث الآخرة والصراط المستقيم، فلذلك تعدل ثلث القرآن، أي: ثلث الأصول من القرآن كما قال: «الحج عرفة» أي: هو الأصل والباقي تبعٌ.
وقال ابن القيم في زاد المعاد: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في سنة الفجر والوتر بسورتي الإخلاص والكافرون» وهما الجامعتان لتوحيد العلم والعمل، وتوحيد المعرفة والإرادة، وتوحيد الاعتقاد والقصد، فسورة الإخلاص متضمنة لتوحيد الاعتقاد والمعرفة، وما يجب إثباته للرب تعالى من الأحدية المنافية لمطلق الشرِكة بوجه من الوجوه. والصمدية المثبتة له جميعَ صفات الكمال الذي لا يلحقه نقصٌ بوجه من الوجوه، ونفي الولد والوالد الذي هو من لازم الصمدية وغناه وأحديته، ونفي الكفؤ المتضمن لنفي الشبيه والمثيل والنظير، فتضمنت هذه السورة إثبات كلَّ كمال له، ونفي كل نقص عنه، ونفي إثبات شبيه أو مثل له في كماله ونفي مطلق الشريك عنه، وهذه الأصول هي مجامع التوحيد العلمي الاعتقادي الذي يباين صاحبه جميع فرق الضلال والشرك، ولذلك كانت تعدل ثلث القرآن، فإن القرآن مداره على الخبر والإنشاء، والإنشاء ثلاثة: أمر، ونهي، وإباحة. والخبر نوعان: خبر عن الخالق تعالى وأسمائه وصفاته وأحكامه، وخبر عن خلقه، فأخلصت سورة الإخلاص الخبر عنه وعن أسمائه وصفاته فعدلت ثلث القرآن، وخلَّصت قارئها المؤمن من الشرك العلمي، كما خلّصت سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} من الشرك العملي الإرادي القصدي. ولما كان العلم قبل العمل وهو إمامه وقائده وسائقه والحاكم عليه ومنزِلُه منازله، كانت سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تعدل ثلث القرآن، والأحاديث بذلك تكاد تبلغ مبلغَ التواتر، و{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} تعدل ربع القرآن، وفي الترمذي: من رواية ابن عباس رضي الله عنهما، يرفعه:
«{إِذَا زُلْزِلَتِ} تعدل نصف القرآن و{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تعدل ثلث القرآن و{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} تعدل ربع القرآن» رواه الحاكم في المستدرك، وقال: صحيح الإسناد.
ولما كان الشرك العملي الإرادي أغلب على النفوس لأجل متابعتها هواها، وكثير منها ترتكبه مع علمها بمضرته وبطلانه، لِما لها فيه من نيل الأغراض، وإزالته وقلعه منها أصعب وأشد من قلع الشرك العلمي وإزالته؛ لأن هذا يزول بالعلم والحجة، ولا يمكن صاحبه أن يعلم الشيء على غير ما هو عليه، بخلاف شرك الإرادة والقصد، فإن صاحبه يرتكب ما يدله العلم على بطلانه وضرره لأجل غلبة هواه واستيلاء سلطن الشهوة والغضب على نفسه، فجاء من التأكيد والتكرار في سورة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} المتضمنة لإزالت الشرك العملي ما يجيء مثله في سورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}
ولمّا كان القرآن شطرين: شطراً في الدنيا وأحكامها ومتعلقاتها والأمور الواقعة فيها من أفعال المكلفين وغيرها، وشطراً في الآخرة وما يقع فيها، وكانت سورة {إِذَا زُلْزِلَتِ} قد أخلصت من أولها وأخرها لهذا الشطر، فلم يذكر إلا الآخرة، وما يكون من أحوال الأرض وسكانها، كانت تعدل نصف القرآن فأحْرِ بهذا الحديث أن يكون صحيحاً. والله أعلم.
الخامسة: قال ابن تيمية: سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} أكثرهم على أنها مكية، وقد ذكر في أسباب نزولها سؤال المشركين بمكة، وسؤال الكفار من أهل الكتاب اليهود بالمدينة، ولا منافاة، فإن الله أنزلها بمكة أولا، ثم لما سئل نحو ذلك أنزلها مرة أخرى، وهذا مما ذكر طائفة من العلماء. وقالوا: إن الآية أو السورة قد تنزل مرتين وأكثر من ذلك، فما يذكر من أسباب النزول المتعددة قد يكون جميعه حقّاً، والمراد بذلك أنه إذا حدث سبب يناسبها، نزل جبريل فقرأها عليه، ليعلمه أنها تتضمن جواب ذلك السبب، وإن كان الرسول يحفظها قبل ذلك. انتهى.
وقد تقدم في مقدمة هذا التفسير ومواضع أُخَر منه تحقيق البحث في معنى النزول بما يدفع المنافاة في أمثال هذا، فراجعه.
ولهذه السورة الشريفة تفاسير على حدة، من أمثلها كتابان لشيخ الإسلام ابن تيمية: أحدهما في تفسيرها، والثاني في سر كونها تعدل ثلث القرآن، فاحتفظ بهما. والله الهادي.